جديد الصحراء: متابعة
في سابقة من نوعها على مستوى العلاقة الملتبسة التي تجمع جبهة البوليساريو بمؤسسة الجيش بالجزائر، تم الإعلان، نهاية الأسبوع الماضي، عن الاجتماع الذي جمع كبار المسؤولين العسكريين الجزائريين بأبرز القيادات بجبهة البوليساريو، والذي خصص، بحسب ما تم الإعلان عنه، لمناقشة وتدارس التطورات التي تعرفها قضية الصحراء من أجل “الرد على الخطوات المغربية الأخيرة تجاه الأمين العام للأمم المتحدة “.
ويعتبر الإعلان عن مثل هاته الاجتماعات ومواضيعها في هذا التوقيت والسياق الإقليمي والدولي- بعدما كانت تتم سابقا في سرية تامة وتكتم شديد- بمثابة مؤشر قوي على أن حدة التجاذبات والتقاطبات بين المغرب والجزائر وصلت إلى مستويات تنذر ببداية مرحلة جديدة من المواجهة تتجاوز الاشتباكات التقليدية التي كانت تنحصر في المجالات الدبلوماسية والاقتصادية.
وارتباطا بهذا المتغير الجديد، يمكن التساؤل عن الدوافع التي جعلت القائمين على ملف الصحراء بالجزائر والماسكين بخيوطه من المؤسسة العسكرية يخرجون إلى العلن في هذه الظرفية التي تتسم بالاحتقان والشد والجذب، بعدما ظلوا، لمدة ثلاثة عقود من الزمن، يديرون الملف من الخلف ويكتفون بترديد الخطابات والعبارات نفسها التي يدّعون من خلالها “الحياد”، كما يبررون استضافتهم واحتضانهم لجبهة البوليساريو بذرائع ومسوغات عدة؛ من قبيل “دعم الشعب الصحراوي في حق تقرير المصير”.
وبمعنى أدق، ما هي الرسائل التي يريد العسكر الجزائري توجيهها من خلال الإعلان عن هذا الاجتماع في هذا التوقيت بالضبط؟ وما هي الأطراف المعنية بهذه الرسائل؟ وما هي محددات هذا التحول؟
وفي إطار محاولة الإجابة عن هذه التساؤلات، واعتمادا على الأحداث الأخيرة، يمكن اختزال الخلفيات التي جعلت العسكر الجزائري يخرج إلى العلن بهذا الشكل في ثلاثة رسائل أساسية:
أولا، يمكن وصف هذا الاجتماع، بالنظر إلى المكونات العسكرية والمدنية التي حضرته، بمثابة “مجلس حرب مصغر”، حيث ترأس الاجتماع عبد المالك سلال، الوزير الأول الجزائري، ورمطان لعمامرة، وزير الخارجية، والفريق قايد صالح، قائد أركان الجيش، وعبد القادر مساهل، وزير الشؤون المغاربية والاتحاد الإفريقي، علاوة على قيادات في الجبهة.
وأبرز الرسائل التي يراد توجيهها إلى المغرب من خلال الصبغة العسكرية التي اتسم بها الاجتماع، هي محاولة إضفاء نوع من الجدية على التهديدات المتكررة للبوليساريو باللجوء إلى الحرب، بعدما فشلت جميع المناورات التي راهنت عليها الجزائر داخل أروقة الأمم المتحدة لثني المغرب عن المضي قدما في تنزيل قراراته الأخيرة.
لذلك فإن انخراط الجزائر بشكل معلن واستعمالها القاموس نفسه الذي تنهل منه البوليساريو شعاراتها التهديدية والتصعيدية ضد المغرب، يهدف إلى ممارسة نوع من الضغط على المملكة لدفعها إلى التراجع عن قراراتها التكتيكية التي تم اتخاذها إثر الأزمة التي وقعت مع الأمين العام للأمم المتحدة، خاصة في ما يتعلق بسحب المكون المدني من بعثة المينورسو التي خسرتها الجبهة كإحدى أهم الوسائط الدعائية التي كانت تسخرها في تشويه صورة المغرب على المستوى الدولي، وفي تغليط الرأي العام، وبالتحديد مجلس الأمن، بواسطة التقارير السوداء عن حقوق الإنسان بالصحراء التي كان يدبجها أعضاء البعثة.
ثانيا، محاولة إعادة شرعنة وجود “تنظيم جبهة البوليساريو” من الناحية القانونية والسياسية، خاصة على المستوى الإقليمي، وتصوير هذا التنظيم كما لو أنه مختلف عن الحركات الانفصالية الموجودة.
هذه الصبغة الاستثنائية التي تحاول الجزائر إعطاءها للبوليساريو، من خلال تصوير جلوس قادتها إلى جانب المسؤولين العسكريين والسياسيين الجزائريين في هذه الظرفية، هدفها توجيه رسائل مباشرة للاجتماع الخامس لوزراء دفاع تجمع دول الساحل والصحراء، الذي عقد في مصر خلال الفترة الممتدة من 22 إلى 25 مارس الجاري، بمشاركة أكثر من 27 دولة عربية وافريقية، وقاطعته الجزائر.
وقد تمكن المغرب خلال هذا الاجتماع، رفقة مصر والسنغال وبعض الحلفاء التقليديين للمملكة، من جعل وزراء دفاع دول تجمع الساحل والصحراء يقرون عددا من التدابير غير المسبوقة الموجهة بشكل مباشر للجزائر والبوليساريو، حيث تضمن البيان الختامي 17 بندا بشأن مكافحة الإرهاب والجرائم العابرة للحدود في منطقة دول التجمع “س.ص”، يبقى أبرزها حظر جميع أشكال التدخل السياسي في الشؤون الداخلية للدول، واحترام سيادتها وسلامة أراضيها، والإحجام عن تقديم الدعم للجماعات الانفصالية وحركات التمرد، وتعزيز قدرات القوات الدفاعية والأمنية للدول الأعضاء في مجال مكافحة الإرهاب من خلال تنفيذ برامج شاملة للتدريب وتبادل الخبرات.
أما الرسالة الثالثة المقصودة من هذا الاجتماع “الحربي”، فهي موجهة بشكل مزدوج إلى داخل المخيمات بالدرجة الأولى، حيث تسعى الجهات العسكرية الجزائرية الماسكة بملف الصحراء إلى طمأنة صحراويي المخيمات وضبط الأوضاع التي تنذر بالانفجار، لاسيما بعد الضربات المتكررة التي تلقتها الجبهة في الآونة الأخيرة، بالإضافة إلى المواقف الحازمة والقوية التي واجه بها المغرب الأمين العام للأمم المتحدة والموسومة بالشراسة والحدة، والتي جعلت من يعتنق أطروحة الانفصال يقع في الحيرة والشك حول مدى جدية وقابلية تحقيق الشعارات الرنانة التي ما فتئت البوليساريو تتشدق بها، دون إغفال الوضع الصحي المتدهور الذي يعيشه زعيم التنظيم الانفصالي وصعوبة إيجاد بديل يحظى بثقة الجيش الجزائري وفي الوقت نفسه يكون قادرا على تحقيق نوع من الإجماع والقبول ضمن المنظومة القبلية المعقدة.
أما الرسالة الموجهة إلى الجزائريين من خلال هذا الاجتماع، فتبقى مبطنة، مفادها بأن ملف الصحراء يعتبر من الملفات السيادية للجيش، وغايتها- أي الرسالة- تكميم الأفواه وقمع المعارضين، خاصة في ظل تصاعد بعض الأصوات السياسية والإعلامية التي ترفض المقاربة المعتمدة التي كلفت الجزائر أموالا طائلة، وعطلت المسار التنموي بهذا البلد مند بداية النزاع حول الصحراء إلى اليوم.
هيسبريس