جديد الصحراء: الرباب بولودن
تمر الدقائق بطيئة,ثقيلة,مملة ومن شدة ثقلها تكاد تصبح ساعات في قاعة الانتظار تلك...قاعة مملوءة عن الاخر يسودها جو من الصمت القاتل..البعض يتألم والبعض يتذمر والبعض الاخر منشغل بفعل " لا شيئ" أو بالاحرى "والو".....لكن القاسم المشترك بين كل هؤلاء البشرجميعا وبدون استثناء هو "الانتظار"....وبينما السيد المحترم "الانتظار "يسطر على الاجواء ويسيرها وفقا للعبته البطيئة والماكرة... فالكل اختارممارسة هواية عريقة لدى المغاربة وهي" الحضية" وما أدراك ما " الحضية والتحنزيز" ....الكل "يحنزز" في الكل ..والكل يود لو استطاع أن يعرف وبدقة بالغة لم الاخرون ينتظرون عند طبيب القلب هذا؟؟ على سبيل الفضول لا أقل ولا أكثر ..وكأن الاخرون قدمو لالتقاط سيلفي مع الطبيب ليغادرو في سبيلهم...والبعض الاخر اختار أن يتفقد جواله ويستمع لتسجيلات الواتساب امام الجميع ,غافل عن اختراع ظهر منذ ثمانينات القرن الماضي اسمه" سماعات الأذن " ضاربا عرض الحائط شيء مقدس لدى المجتمعات المتحضرة اسمه خصوصية او احترام لحرية الاخر او راحة الاخر ..أي كان.... شيء يدل على أن حريتك تنتهي حين تبدأ حرية الاخر أو شيء من هذا القبيل.....
وبينما تتوسط القاعة طاولة ملئى بالجرائد والمجلات النسائية فلا أحد يرضى أن يمد يده نحوها ويأخد أية جريدة من صحافة نصف الكيلو ويقتل بها ولو القليل من ذاك الوقت الذي يتسرب بين الاصابع دون ان نتحكم به...
المني المشهد حقا ..ونحن امة " أقرأ" اخترنا التحنزيز في بعضنا البعض بدل القراءة ...على أي ولكي أقتل ذاك الملل كنت قد أحضرت معي رواية تحسبا لمثل هاته الحالات (الدنيا والزمان هادا الواحد يضرب حساب لكلشي ) تلك الرواية اللعينة والتي هي الاخرى مملة لكنني عازمة على اكمالها ولو على حساب سلامتي العقلية وصحتي النفسية بحجة تطوير لغتي الفرنسية البائسة.....فتحت حقيبة يدي اخرجت الرواية اللعينة ونظاراتي الطبية وأخذت اقرأ ..فجأة احسست بالأنظار تتجه نحوي والسيدة التي تجلس قربي تحاول استراق البصر عساها تعرف ماذا أقرأ؟... وكأنني كائن نزل من السماء في العصر الحجري ومعه ولاعة وأوقدها وسط اولائك البشر البدائيون وأخذو ينظرون اليه بتلك النظرة الغريبة والتي فيها نوع من الدهشة الغير مفسرة والفرحةلرؤية نار توقد بهذه البساطة....أمر غريب وبقدر غرابته مضحك فقبل سنوات ليست بالبعيدة كان أمر فريد أن ترى احدهم يحمل هاتفا نقالا ,والكل كان يحمل كتابا يقرأه ..واليوم انقلبت الاية اصبح الكل يحمل "سمارت فون" ويجده أمرا غريبا ان يرى أحدهم يحمل كتاب في شكله التقليدي.....توترت لوهلة كأي شخص حينما تسلط عليه الانظار وتصبح حركاته مراقبة...لم أكترث وأكملت القراءة.....
بعد حين وجدتني انغرس في أحداث الرواية أكثر واكثر ...لم تكن بهذا السوء حقا.. ونسيت المكان كما نسيت الزمان...رفعت رأسي كي أرى الساعة ..سحقا لا توجد ساعة... استدرت حولي وجدت المشهد نفسه مازال متجسدا,,, الملل والانتظار يبسطين جناحيهما على هاته الوجوه العابسة والتي على ما يبدو تأقلمت شيئا ما مع الوضع واحترفت الانتظار بصمت ..... نظرت مجددا الى تلك الطاولة الموضوعة مباشرة امامي وعلى بعد سنتميرات فقط من مقعدي,مددت يدي دون أي سابق تفكير وحملت مجلة نسائية من بين كومة المجلات تلك والتي تتشابه الوجوه فيها كما الأجساد المتناثرة أيضا ..أخذت أقلب الصفحات ...لا تغيير ...ولا جديد منذ اخر مرة فتحت فيها مجلة نسائية قبل سنوات على ما أعتقد...الاخبار التافهة نفسها,
..وأؤكد لكم لو أني لمحت مجلة "ماجد ومغامرات كسلان" لاخترتها دون تردد
...نفس القصص "البايخة" ,قصص تجعل من المرأة العنصر الضعيف في تركيبة الكون المعقدة ,والجزء الغامض في معادلة الحياة هاته ,ومادة قابلة للاستهلاك دون أي تاريخ لانتهاء الصلاحية فلا حدود لهاته المجلات لاستغلال المرأة وطبيعتها المكرمة لدر المداخيل وجذب المزيد من القراء... قصص عن الحرمان العاطفي.....عنواين منحطة متناثرة هنا وهناك لا تنم عن أي حياء ولا عن احترام ولا عن ذوق..عنواين تكاد تصل حد الانحلال والميوعة الاخلاقية. حوارات مع نساء يترأسن جمعيات مشبوهة بقصات شعر و بناطيل كالرجال يطالبن فيها بالمسواة مع الرجال ...يتغنين بنفس الخطابات وكأنها الشريط عينه ... حفظنه عن ظهر قلب ليسترن به مصالحهن الخفية واهدافهن الذاتية تحت ذريعة حرية المرأة "حرية ارتداء الميني جيب ولو في رمضان وأمام أمة محمد الصائمة" ..وأية مساواة هاته؟؟
وجمعيات اخرى تنادي بحقوق المثليين ؟والله المستعان على ما يصفون.
والاغلبية الساحقة لقصص كلها عن الخيانة الزوجية فيها نساء يندبن حظهن العاثر مع أزواج خونة.....كل المواضيع كانت تمجد لفكرة واحدة وتزرعها بعمق و بدهاء محكم وهي " أن المرأة ضعيفة وضحية على الدوام وكل ما يقع لها فهو بسبب ظروف خارجية لا تتحمل فيها أية مسؤولية ....فكلها ظروف تفوق طبيعتها الانثوية الضعيفة والغير قادرة على مجابهتها لانها خلقت ضعيفة ...أجل خلقت ضعيفة..خلقت انثى"
تنهدت بعمق وأخذت اقلب الصفحات علني أجد ما يثير اهتمامي......صفحة الموضة وأية موضة هاته التي تجعل من خرقات بالية ملابس تكشف أكثر مما تستر وهل هذا هو الهدف اساسا من استعمال الملابس منذ الأزل؟؟ وقطع من "الجالوق أو القصدير " تعرض بأسم حلي "أ لاموض " وأحذية تكاد تكون أشبه بدلو ماء (سطل) ومكتوب أسفل الصورة : حذاء شيك من تصميم مصمم مخنث معروف أو من ماركة كذا وكذا بأثمنة باهضة جدا !!! صحيح أن الاذواق لا تناقش ولكن كيف لأشياء تافهة كهاته أن تباع بهكذا أثمنة......
ويا حسرتي على ذاك القفطان المغربي الاصيل الذي كان يجعل كل من ارتدته تبدو كسلطانة تقف فوق عرش امبراطوريتها لينحني الكل تمجيدا لذلك الجمال المصقول المتجسد في حياء بديع... هاهو اليوم أصبح شبيه بقميص نوم بفتحات لا أدري الى أين تريد الوصول وعما تريد أن تكشف ؟؟؟...عموما لا شيء يستحق الذكر...
أغلقت المجلة ووضعتها جانبا وحملت جريدة وعلى الغلاف "الفنانة الفلانية تزوجت من فلان " والمغنية الفلانية قضت اجازتها في" القرينة الفلانية" رفقة صديقها الجديد فلان " ....وما شأني أنا ان تزوجت هاته أو تطلقت تلك او قضت تلك اجازتها في جزر هاواي أو حتى في غوانتانامو؟؟؟؟ قلبت الصفحات لأجد خبر مخطة حروفه بالخط العريض وبصورة تحتل نصف الصفحة...حقا خبر بمليون جنيه ههه "المغرب يدخل موسوعة غينيس بأكبر قصرية عصيدة " ....المغرب؟...موسوعة غينيس؟ ..يا لهوي يا لهوي؟؟؟؟؟..يا سلام شرف عظيم لنا ...نحن شعب الاكل والنوم والتحنزيز بامتياز....وبهذه المناسبة السعيدة اهنئ كل المغاربة على شرف تلك العصيدة فهذا وسام شرف نفتخر به أمام اخوتنا في الخليج أولائك الذين يسبهم اغلب المغاربة ان لم نقل كلهم وينعتهم بالغباء وبكونهم شعب الأكل والنوم والتبذير والاسراف وأن كنت اعترض على مثل هاته الاقاويل على الدوام....
أولسنا نكرس ايضا لتلك الفكرة بهاته العصيدة وأكبر قصرية كسكس وأكبر طاجين واكبر أومليط والقائمة تطول وتطول سنة وراء سنة ماشاء الله..واللهم كثر حسادنا ....أو لسنا شعب الاكل والنوم أيضا....؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
وفي زاوية من الصفحة نفسها خبر موجز مفاده بالمختصر المفيد " مغربي ما على وجه البسيطة ولكن ليس في المغرب بكل تأكيد اسمه "اليزمي" يخترع شريحة ذكية تُمكّن من شحن البطارية في ظرف زمني قصير أي في أقل من عشر دقائق ,ليتم تشريفه بلقب ما مع تسعة مسلمين اخرين من مختلف انحاء العالم من طرف موقع اجنبي هو الاخر... وانتهى ....
أمر عجيب ذوي الشأن االرفيع يهمشون هكذا وببساطة ؟؟؟؟أهذا هو مستوى السلطة الرابعة الذي وصل اليه الحال في بلدي؟ ...أبهاته الاشياء المنحطة نريد أن نرتقي بمجتمعنا وان نصل مرتبة تلك الحضارات التي على ما يبدو انها اصبحت تفوقنا بسنوات ضوئية...؟؟؟
طيب لماذا لا نجد هوامش لأدب حقيقي في هاته المجلات وفي هاته الجرائد والتي أغلبها جرائد مخزنية مخطة بمخدرات ومنومات بدل الحبر.....لماذا لا يعامل الادب في بلدي كما يعامل الفن الساقط؟
ولماذا يهمش الكاتب أوالمؤلف ويضطر المسكين أن يبيع ما نزفته أقلامه في أواخر الليالي بأثمنة بخسة كي يوفر ثمن حبره و ثمن أوراق كتاباته القادمة في حين تكرم العاهرات فوق المنصات والمسارح تحت ذريعة الفن والتفتح الحضاري عفوا أقصد التخلف الاجتماعي؟؟؟؟
ألقيت بالجريدة الى جانب كومة الميوعة تلك من المجلات النسائية وعدت لأنضم الى شعب التحنزيز ذاك وكأنني فهمت بطريقة غير مباشرة لماذا فضل الكل الا يمد يده الى طاولة الانحطاط تلك فالكل اختار ان يبقى مخدر و غائب عن الوعي والأفضل أن اغيب أنا الاخرى عن الوعي أيضا...فتذكرت احدى الأغاني الايرلندية وأكملت فترة انتظاري وأنا ادندن مع كلماتها في ذهني وبقيت أندب في صمت واقع مجتمع اختار أن يبقى اسفل السافلين...مجتمع فضل ان يقدس التفاهة ويقيم للحماقة وزن بأسلوب هبل وعلى الطريقة المغربية.